المقالات الفلسفية السنة الثالثة ثانوي
اشرح هذا القول وناقشه ؟
ملاحظة : في موضوع عام هكذا يجب أن نقرأ بإمعان نص الموضوع ونحدد معنى كل كلمة تحديدا دقيقا " وبعد ذلك نشرع في وضع تصميم للموضوع ونحدد معنى كل كلمة تحديدا دقيقا ، وبعد ذلك نشرع في وضع تصميم للموضوع ثم ننتقل إلى تحليل الموضوع . وإذا لم نحدد معني كل كلمة في نص الموضوع ربما جرنا ذلك إلى الوقوع في خطأ في فهم الموضوع وبالتالي فإننا سنخرج عن الموضوع . والكلمة التي يجب تحديد معناها في الموضوع هي كلمة << معرفة >> . ويقصد هنا بالمعرفة المعرفة اليقينية وهي المعرفة العلمية . ويمكن أن نستبدل كلمة معرفة بكلمة علم فيصبح الموضوع على الشكل الآتي :<< الفلسفة ليست علما و إنما هي تفكير حول العلم >> , فالمقصود هنا بالتفكير التأمل . بعد أن حددنا معنى كلمات الموضوع المطروح أصبح الموضوع واضحا إذ علينا أن نعالج قضية علاقة العلم بالفلسفة .
تحليل الموضوع :
كانت الفلسفة في القديم تضم جميع العلوم , وكان على الفيلسوف أن يلم بجميع علوم عصره , وهكذا رأينا أن ( أفلاطون ) مثلا اهتم بقضايا الميتافيزيقيا في نفس الوقت الذي اهتم فيه بالرياضيات والفلك والاجتماع والسياسة و الأخلاق ... الخ . وكذلك الأمر بالنسبة لغيره من الفلاسفة وحتى عهد قريب كان ينظر إلى الفلسفة على أنها تشمل جميع العلوم الأخرى ف ( ديكارت ) مثلا شبه الفلسفة بالشجرة جذورها الميتافيزيقيا , وجذعها الفيزياء وغصونها الميكانيكا والطب و الأخلاق . إلا أن عملية انفصال العلوم على الفلسفة تمت بصورة تدريجية إلى أن استقلت هذه العلوم بعد أن تحدد موضوعها ومنهجها . ولم تحدث عملية الانفصال في فترة واحدة من تاريخ الفكر البشري ، بحيث أن الفكر كان يشهد من حين لأخر انفصال علم من العلوم عن الفلسفة , حتى وصلنا إلى الوضعية التي نحن عليها الآن . فابتداء من ( أوقليدوس ) و ( أرخميدس) اعتبرت الرياضيات منفصلة عن الفلسفة ، وكذلك الفيزياء عرفت هذا الاستقلال في القرن السابع عشر على يد ( غاليلي ) و ( نيوتن )، والكيمياء في القرن الثامن عشر على يد ( لافوا زيه ) ، والبيولوجيا على يد ( لامارك ) و ( کلودبرنار)، ومنذ منتصف القرن الماضي بدأت عملية استقلال السوسيولوجيا أو علم الاجتماع على يد ( أوغست كونت ) و ( سان سيمون ) . وتلتها عملية استقلال السيكولوجيا أو علم النفس .
وتعتبر السوسيولوجيا والسيكولوجيا المعلمان اللذان استقلا حديثا عن الفلسفة بعد أن تحدد موضوعهما ومنهجهما , وبعد أن أصبح بالإمكان إجراء التجربة في هذين العلمين .
ولكن إذا استقلت جميع العلوم أي المعارف عن الفلسفة فهل هذا يعني أنه لم يعد للفلسفة موضوع؟ إن الفلسفة لم يعد ينظر إليها في العصر الحديث على أنها حصيلة المعارف السائدة في عصر من العصور ، وإنما أصبحت طريقة في التفكير وفي تناول الموضوعات . لذلك يمكن للفلسفة أن تستخدم حقائق العلم لتطرح سؤالها حول قيمة هذه الحقائق . ولو كانت الفلسفة حقائق ثابتة يمكن أن نتعلمها لتحولت إلى علم ، لذا قيل بأنه لا توجد فلسفة يمكن أن نتعلمها وكل ما يمكن أن نتعلمه هو كيف نتفلسف .
ونحن عندما نتفلسف لا نضيف معرفة جديدة إلى معارفنا ، وإنما نقف من معارفنا موقفا نقديا فنتساءل عن حقيقة ما نعرف وقيمته وحدوده . وقديما كان ( سقراط ) يدرك أن الفلسفة لا تضيف إلى معلوماتنا شيئا جديدا و إنما تزيد عمقا ما لدينا من معلومات ، لذا استخدم سقراط طريقته المشهورة في الجدل والتي أطلق عليها اسم << التوليد >> أي توليد الأفكار من الذاكرة
ففي محاورة مينون ل ( أفلاطون ) يسأل سقراط ( مینون ) السؤال ويقول : << ما هو تعريف الفضيلة >> ؟ ويستسهل ( مينون) السؤال ويقول : « إن الفضيلة هي أن يستطيع الإنسان أن يأمر أو يوجه الآخرين >> . ويعترض ( سقراط ) على هذا الجواب قائلا بأن الطفل يمكن أن يكون فاضلا وكذلك العبد لكنهما لا يأمران الأخرين . ويجيب ( مینون ) ، ثم يعترض عليه ( سقراط ) ... وهكذا إلى أن يصل ( مینون ) بنفسه إلى التعريف الصحيح للفضيلة . وهكذا فان (سقراط ) ولد تعريف الفضيلة من إجابات ( مينون) . إذن إن مادة التفكير في حوار (سقراط ) و ( مینون )
هي المعرفة التي يتوفر عليها ( مینون ) نفسه . ف (سقراط) يتفلسف ولكن موضوع فلسفته في الحوار المذكور هو معرفة ( مینون ) السابقة . وهذا دليل على أن الفلسفة ليست معرفة و إنما هي تفكير حول المعرفة .
وإذا ما استعرضنا الفلسفات الحديثة رأينا أن هذه الفلسفات قد تخلت عن تقديم << منظومات >> فلسفية متكاملة كما كانت تفعل في الماضي لترضى بأن تكون تفكيرا حول مختلف المعارف الإنسانية. لذا يقول ( برونشفيك ) وهو من الفلاسفة المحدثين بأن الفلسفة ليست محاولة للزيادة من << كم >> المعرفة الإنسانية وإنما هي تفكير <<كيف >> هذه المعرفة , ويقصد ( بر ونشفيك ) من قوله هذا بأن الفلسفة ليست مطالبة بأن تزيد من معارفنا كما تفعل العلوم الأخرى وإنما هي مطالبة بأن تتساءل عن قيمة معارفنا . وهذا التساؤل قد يؤدي إلى إعادة النظر في معارفنا وإلى حذف بعضها . وقد أخذ بهذا الموقف الفيلسوف الألماني
( كانط ) الذي يعتبر موقفه نقطة تحول في الفلسفة الحديثة . يرى ( كانط ) بأن علينا قبل كل شيء أن نحدد مدى طاقة تفكيرنا ونتساءل فيما إذا كان بإمكان العقل البشري أن يدرك جميع الموضوعات وما هي حدود هذا العقل . وينتهي ( كانط) إلى أن العقل لا يدرك إلا ما هو محدد في الزمان والمكان وذلك بعد قسم الموضوعات إلى قسمين :: << الظواهر , وهي ما يخضع للزمان والمكان ، و << النومين >> أو الأشياء في ذاتها , وهي ما لا يخضع للزمان والمكان أي موضوعات الميتافيزيقيا . ويقول أن العقل البشري ركب بطريقة لا يدرك معها إلا ما هو خاضع للزمان والمكان أي الظواهر ، أما إذا حاول العقل أن يدرك موضوعات << النومين >> أو الحقائق المطلقة فإنه سيقع في << المعارضات >> أي يبرهن برهنة متساوية في اليقين على قضايا متناقصة في نفس الوقت .
وقد يعترض البعض فيقول : إذا كانت الفلسفة هي مجرد تفكير حول المعرفة وليست معرفة حقيقة فهذا يعني أنها ستبقى دائما نسبية لأنها ستظل دائما مرتبطة بالمعرفة التي تتغير باستمرار . إن هذا الاعتراض لا يضر الفلسفة في شيء ، بل يمكن اعتباره دليلا على حيويتها ، إذ كلما تجددت المعارف كلما تجددت الفلسفة . والعلم في تقدم ويفتح مجالات جديدة للفلسفة ولا يقضي عليها ، بل على العكس من ذلك إنه يتيح للفلسفة أن تجدد في طرح قضاياها ويسمح لها بطرح قضايا جديدة . لهذا قيل « إن الفلسفة تبدأ حيث ينتهي العلم >> ، بمعنى أن العلم يقرر الحقائق الجزئية و تأتي الفلسفة لتنطلق من هذه الحقائق وتجعلها موضع تساؤل ، أي أن الفلسفة لا تضيف حقائق جديدة أو معارف جديدة كالعلم ، وإنما تفكر في هذه الحقائق وتحدد مدى قیمتها . وهكذا يبدو واضحا أن الفلسفة ليست علما أو معرفة وإنما هي تفكير حول العلم أو حول المعرفة .
الطريقة : استقصائية
الدرس : المنطق 1
السؤال الثاني (1) : هل تعتقد أن قوانين المنطق معايير يجب أن يلتزم بها كل تفكير ؟
إن المنطق هو علم القواعد التي تجنب الإنسان الخطأ في التفكير وترشده إلى الصواب ، فموضوعه أفعال العقل من حيث الصحة والفساد . وتشير الدراسات الحديثة أن هناك شعوبا عرفت المنطلق في كثير من تفاصيله كالصينيين والهنود ... قبل أرسطو الذي كان مهتما به للرد على السوفسطائيين ، ولتنظيم الفكر الإنساني ، ومن هنا كانت قواعد المنطلق عند أرسطو مقدمة للعلوم أو ألة لها ، فكان يسمى الأورغانون أي الآلة ، وأصبح يعرف عند الفلاسفة " بأنه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن من الخطأ في
الفكر ." فإذا كان المنطق في نظر أرسطو هو قانون للفكر ومنظم لعملياته وضابط لصحيحه من فاسده ، وهو وحده الذي يصلح آلة الفلسفة والعلوم . فهل عد المنطق كذلك عند من جاء بعده ؟
المنطق قانون الفكر الإنساني
لقد اعتنى أرسطو بالمنطق إذ كان هو أول من نضمه كعلم له موضوع معين يتميز به عن سائر العلوم ، وكان كذلك أول من بوب أبوابه ووضح أجزاءه ، لذا سمي أرسطو بالمعلم الأول ، إلا أنه سماه بالتحليل لا المنطلق ، وأول من أطلق اسم المنطق على هذا العلم شرح أرسطو ، ثم اهتم به فلاسفة الإسلام ، فكان له تأثير كبير في العالم الإسلامي حيث سماه العرب بعلم المنطق تارة وبعلم الميزان تارة أخرى ، وقد اعتبره الفارابي رئيس العلوم النفاذ حكمه فيها أو بقوله عنه : " فصناعة المنطق تعطی بالجملة القوانين التي شأنها أن تقوم العقل وتسدد الإنسان نحو الطريق الصواب ونحو الحق .... . وقد ذهب الكثير من المفكرين الأصوليين إلى أن تعلم المنطق فرض كفاية على المسلمين وهذا على درب أبو حامد الغزالي الذي
قال : " إن من لا يحيط بالمنطق فلا ثقة بعلومه أصلا " . ومن علماء العصر الحديث هانزریشنباخ الذي يرى أن في جمع قواعد المنطق على شكل نظرية وتطبيقها بوعي في المجال العلمي هو بحث يعود فيه الفضل إلى أرسطو، إذ يقول : " بفضل دراسة أرسطو للصورة المنطقية اتخذ المنطق الخطوة الأولى التي أدت إلى قيام علم المنطق ."
فعلا يعتبر المنطق من العلوم العقلية القديمة التي استحوذت على اهتمام الفلاسفة و المناطقة قديما وحديثا ، إلا أن هذه الحركة المنطقية لم تحظ بالترحيب الكلي من طرف الجميع ، فقد وقف البعض منها موقف العداء الشديد خاصة من بعض فلاسفة وفقهاء الإسلام . المنطق قانون الفكر اليوناني وحده .
إذا كان أرسطو و المشاؤون القدماء يرون أن العلم بحقائق الأشياء إنما يحصل بأداة هي المنطق ، فان أهمية المنطق و ضروريته بدأت تطرح مع فلاسفة الإسلام فمثلما أثرت مباحث المنطق على المسلمين ووصلت في أبحاثهم اللغوية والأصولية إلى درجة أن بعض علماء الكلام وعلماء أصول الدين أخذوا يخرجون حججهم في صورة القياس المنطقي ، فان أثر هذه الحركة في العالم الإسلامي لم يدم . وكان من طائفة الفقهاء من لم يوافق على هذه الحركة المنطقية ووقف منها موقف العداء الشديد ، فهوجم الغزالي هجوما شديدا من علماء الإسلام ومنهم ابن الصلاح الذي كتب يقول : " فأبو بكر وعمر وفلان وفلان وصلوا إلى الغاية من اليقين ولم يكن أحد منهم يعرف المنطق ". وكان يقول أيضا : " المنطق مدخل الفلسفة ومدخل الشر ." وقد كان أثر بن الصلاح عميقا في علماء المسلمين بعده ، بحيث أصبح شائعا القول : " من تمنطق تزندق " ولكن ما لبث نقد المنطق أن توجه وجهة أخرى على يد مفكري السلف المتأخر تقي الدين ابن تيمية فلم يعد نقد المنطق في صورة فتاوی بل بدأ يتخذ شكل النقد المنهجي بمعنى أن ابن تيمية لم يكتف بالقول أن المنطق يخالف صحيح المنقول بل اعتبره مخالفا للصحيح المعقول ، فيقول فيما جاء به المناطقة : " كل هذه الدعاوی كذب في النفي والإثبات ، فلا ما نفوه من طرق غيرهم كلها باطلة ، ولا ما أثبتوه من طرقهم كلها حق على الوجه الذي أدعو فيه ". وهكذا كان من يصبو إلى تعلم المنطق يتهم بالتبدع أو فساد العقيدة . ولم يحدث هذا في المشرق وحسب بل وفي المغرب أيضا .
حقيقة لا يمكن اتخاذ المنطق أداة وحيدة وفريدة لمعرفة الواقع وحقيقة الموجودات مثلما كان شائعا في عصر أرسطو والمشائين بعده إلا أنه لا يمكن تجاهل قيمة المنطق فمعرفة المنطق إيجابية في بلوغ الحق .
الإشكال : هل ترى أن المفاهيم الرياضية في تطورها نابعة من التجربة أم من العقل ؟
لقد انقسم المفكرون في تفسير نشأة المفاهيم الرياضية إلى نزعتين ، نزعة عقلية أو مثالية يرى أصحابها أن المفاهيم الرياضية من ابتكار العقل دون التجربة ، ونزعة تجريبية أو حسية يذهب أنصارها إلى أن المفاهيم الرياضية مهما بلغت من التجريد العقلي فإنها ليست من العقل في شي وليست فطرية بل يكتسبها الإنسان عن طريق تجاربه الحسية فما حقيقة الأمر ؟فهل المفاهيم الرياضية في نموها انبثقت من التجربة أم من العقل ؟
يرى أصحاب الاتجاه المثالي أو العقلي أن المفاهيم الرياضية نابعة من العقل وموجودة فيه قبليا فهي توجد في العقل قبل الحس أي أن العقل لم يفتقر في البداية إلى مشاهدة العالم الخارجي حتى يتمكن من تصور مفاهيمه وإبداعها وقد كان على رأس هذه النزعة أفلاطون الذي يرى أن المعطيات الأولية الرياضية توجد في عالم المثل فالخطوط والأشكال والأعداد توجد في العقل وتكون واحدة بالذات ثابتة وأزلية يقول أفلاطون (إن العلم قائم في النفس بالفطرة والتعلم مجرد تذكر له ولا يمكن القول أنه اكتساب من الواقع المحسوس)؛ فهو يرى أن المفاهيم الرياضية لا ندركها إلا بالذهن وحده ، فالتعريفات الرياضية مجالها ذهني ولا تتحقق إلا بواسطة العقل دون حاجة إلى المحسوسات فالتعريفات للحقائق الرياضية واحد لا يتغير واضح متميز وعلى شاكلة هذا الطرح ذهب ديكارت إلى أن الأعداد والأشكال الرياضية أفكار لا يجوز فيها الخطأ وفي هذا يقول (إنها ما ألقاه الله في الإنسان من مفاهيم) أي بمعنى المفاهيم الرياضية ويؤكد مالبرانش من جهته ذلك حيث يقول (إن العقل لا يفهم شيئا ما إلا برؤيته في فكره اللانهائي التي لديه وأنه الخطأ خالص أن تظن ما ذهب إليه فلاسفة كثيرون من أن فكرة اللانهائي قد تكونت من مجموعة الأفكار التي تكونها عن الأشياء الجزئية بل العكس هو الصحيح ، فالأفكار الجزئية تكتشف وجودها من فكره اللانهائي كما أن المخلوقات كلها تكتسب وجودها من الكائن الإلهي الذي لا يمكن أن يتفرع وجوده عن وجودها ) إننا فيم يقول لم نخلق فكرة الله ولا فكرة الامتداد بكل ما يتفرع عنها من حقائق رياضية وفيزيائية فقد جاءت إلى عقولنا من الله و يمكن أن نضم كانط إلى هذه النزعة رغم أنه كان يقصد التركيب بين التفكير العقلي والتفكير الحسي فهو يرى أن الزمان والمكان مفهومان عقليان قبليان سابقان لكل معرفة تجريبية ويؤطرانها وهم يرون أن هذه الحقائق تدعم نظرتهم وهي كالتالي : إن الملاحظة لا تكشف لنا على الأعداد بل على المعدودات كذلك أن المكان الهندسي الذي نتصوره على شكل معين يشبه المكان الحسي الذي نلاحظ بالإضافة إلى أن الخط المستقيم التام الاستقامة لا وجود له كذلك بعض القوانين كالعلاقات بين الأشكال كما أن الكثير من المعاني الرياضية مثل 0.7 لا ترجع إلى الواقع المحسوس .
إن القول بهذا الرأي لم يصمد للنقد ذلك أنه مهما تبدو المعاني الرياضية مجردة فإنه لا يمكن القول بأنها مستقلة عن الواقع الحسي و إلا فكيف نفسر الاتجاه التطبيقي للهندسة لدى الشعوب القديمة خاصة عند الحضارات الشرقية في استخدامها الطرق الرياضية في الزراعة والحساب وهذا ما يدل على ارتباط الرياضيات أو التفكير الرياضي بالواقع .
وعلى عكس الرأي السابق نجد أصحاب المذهب الحسي أو التجريبي مثال جون لوك دافيد هيوم* جون ستورات مل يرون أن المفاهيم الرياضية في رأيهم مأخوذة مثل جميع معارفنا من صميم التجربة الحسية ومن الملاحظة العينية ، فمن يولد فاقدا لحاسة فيما يقول هیوم لا يمكن بالتالي أن يعرف ما كان يترتب على انطباعات تلك الحاسة المفقودة من أفكار فالمكفوف لا يعرف ما اللون والأصم لا يعرف ما الصوت ، إن الانطباعات المباشرة التي تأتينا من العالم الخارجي هي بمثابة توافد للأفكار ومعطيات للعقل ،ونجد جون ستوارت ميل يرى أن المعاني الرياضية فيما يقول والخطوط والدوائر التي يحملها كل واحد في ذهنه هي مجرد نسخ من النقط والخطوط والدوائر التي عرفها في التجربة ) ، وهناك من الأدلة والشواهد من الواقع النفسي ومن التاريخ ما يؤيد هذا الموقف ، فعلم النفس يبين لنا أن الأعداد التي يدركها الطفل في بادئ الأمر كصفة للأشياء ولكنه لا يقوي في سنواته الأولى على تجريدها من معدوداتها ثم أنه لا يتصور إلا بعض الأعداد البسيطة فإذا ما زاد على ذلك قال عنه (كثير ) فمثلا لو أعطينا طفل ثلاث حبات زيتون وأعطينا بالمقابل أخاه الأكبر خمس حبات فنلاحظ أن الطفل الصغير يشعر بضيق كبير لأنه يرى أن حصته أقل من حصة أخيه لكن حكمه لا يستند إلى أن حصة أخيه الأكبر تفوقه ب (2) لأن هذه العملية تتطلب منه النظر إلى كمية الزيتون باعتبارها وحدات مجردة من منافعها ثم طرح مجموع الوحدات التي لديه من مجموع الوحدات التي كانت من نصيب أخيه وهذه العملية ليس بوسع الطفل القيام بها في مرحلته الأولى ، كذلك أن الرجل البدائي لا يفصل هو الأخر العدد عن المعدود فقد كان يستخدم لكل شيء كلمة خاصة به فمثلا العدد (2) يعبر عن جناحي الطير والعدد (4) يعبر عن قدمي الطير وقد كان لليد تأثير كبير في الحساب حتى قال أسبيناس
أنها أداة الحساب ، إذن فالمفاهيم الرياضية بالنسبة لعقلية البدائي و الطفل لا تفارق مجال الإدراك الحسي وكأنها صفة ملامسة للشيء المدرك كالطول والصلابة .أما من التاريخ فتاريخ العلوم يدلنا على أن الرياضيات قبل أن تصبح علما عقليا قطعت مرحلة كلها تجريبية ودليل ذلك أن العلوم الرياضية المادية هي التي تطورت قبل غيرها فالهندسة كفن قائم بذاته سبقت الحساب والجبر لأنها أقرب للتجربة ويظهر أيضا أن المفاهيم الرياضية الأكثر تجريدا أخذت نشأتها بمناسبة مشاكل محسوسة مثل تكعيب البراميل وألعاب الصدفة التي عملت على ظهور حساب الاحتمالات .
إنه لمن الواضح أن العلم لا يجد أية صعوبة في تطبيق هذه المعاني ولكن هذا لا يعني أن ننكر دور العقل في تحصيل هذه المعاني ولهذا ظهر الاتجاه التوفيقي بين الطرفين .
إن الخطأ الذي وقع فيه المثاليون والتجريبيون هو أنهم فصلوا العقل عن التجربة والحق أنه لا وجود لعالم مثالي أو عقلي ولأعداد وأشكال هندسية تتمتع بوجود لذاتها مثل الأفكار الأفلاطونية والقوالب الكانطية القبلية ونجد جون بياجي الذي يرى أن للعقل دورا إيجابيا ذلك أن عملية التجريد واكتساب المعاني عمل عقلي ويري في المقابل أن العقل لا يحمل أي معاني فطرية قبلية بل كل ما فيه قدرة على معرفة الأشياء وتنظيمها ويری كذلك جون سارتون أن العقل لم يدرك المفاهيم الرياضية إلا من جهة ارتباطها بلواحقها المادية ولكنه انتزعها بالتجربة من لواحقها حتى أصبحت مفاهيم عقلية بحتة ،وأيضا نجد بوانكاري يقول لو لم يكن في الطبيعة أجسام صلبة لما وجد علم الهندسة فالطبيعة في نظره بدون عقل مسلط عليها لا معنى لها يقول أحد العلماء الرياضيين (إن دراسة معمقة للطبيعة تعد أكثر المنابع إثمارا للاكتشافات الرياضية)
لا شك أن التجربة كانت في البداية منطلق التفكير الرياضي ومنه له ولكن منذ ذلك العهد أصبح من الصبياني طرح مشكلة أسبقية العقل أو التجربة في نشوء هذا التفكير لأن هذا التفكير الرياضي تطور بصفة مستقلة نحو النطاق أو المملكة العقلية الخالصة ،رغم الفارق الذي يظهر بين التجربة من جهة والمجرد العقلي من جهة أخرى فإن اللغة الرياضية تبقى نافعة جدا في معرفة العالم المحسوس معرفة علمية .